المدونة

“مأزق الشعر النبطي في العصر الحديث “

“مأزق الشعر النبطي في العصر الحديث “

لا تتغير الثقافات الإنسانية المرتبطة بالموروثات إلا بعد بعد قرون ، وتكون نتيجة تراكمات أوجدتها صراعات وحروب واضرابات في منطقةٍ ما ، لكن هذا كان بالماضي ، أما نحن في هذا العصر ( العولمة )، فلا يمكن تصّور قدرة التكنولوجيا على التغيير في العقول والأفكار والقناعات ، وكذلك الألسن واللغات .
ولطالما كانت الجزيرة العربية في منأى من حركات التغيير الثقافية والفكرية التي حدثت في بلدان المغرب العربي والشام نتيجة الانتدابات الغربية والاستعمار طويل الأمد والذي أعمل تغييرا هائلا في تغيير تفكير الكثيريين ليبدأ تأثير ذلك التغير الفكري على اللغة ولهجاتها بشكل طردي وببطء متتابع ، فكانت نتيجة ذلك أن تكون لهجة المغاربي أقرب للفرنسية منها للعربية مثلا ، ولكن لا يطول الحال كما هو عليه ، فتلك البلدان التي تربطنا بها روابط الدين واللغة والعرق، قد بدأت بالتعافي الثقافي نتيجة اضمحلال أفل الاحتلال الغربي منها ، لكن للأسف التغيير اللغوي لم يطرأ على لهجاتهم ولا زالوا بعيدين عن الفصحى وملحقاتها . وأما نحن في الجزيرة العربية ، صحيح أننا ولله الحمد لم نتعرض لاحتلال عسكري يؤثر علينا فكريا ولغويا، غير أن التكنلوجيا لمّا أطلت برأسها علينا ، بدأت معها تأثيراتها السلبية غير المرئية ، فالتكنولوجيا تلزمك باستعمال لغة صاحب صنعتها ، وأنت ملزم بفهم مصطلحاتها للتعامل معها بكافة أشكالها ، فمن أراد تعلم الحاسب مثلا عليه أن يتدارك مصطلحات هذا المجال ليتسق مع نظراءه ثم ينكفء عن مصطلحات العربية التي لا توفر لغة هذا المجال واعني الحاسب ، وعلى الجانب الادبي يمكننا القول أن من ضحايا هذه الحركة المستمرة هو ” الشعر النبطي ” ، حيث أننا نعيش الآن في مرحلة لم نعد قادرين على فهم قصائد لها مئتي عام فقط نتيجة انخراطنا من غير وعي في التكنولوجيا . ليس ذلك اعتلالا بعقولنا بقدر ماهو نتيجة طبيعية للانتقال من بيئة البادية الثرية بالمصطلحات العربية ، إلى بيئة متطورة فقيرة بالعربية التي لم تستحدث مفردات للصناعات الحديثة ، وتكاد تكون محصورة على عددٍ قليل من الكلمات يكفي فقط لتسيير أمورنا الحياتية ، وإن قلنا أن من تجاوزت أعمارهم الخمسين لايزال لديهم مخزون لغوي جيد ، إلا أن أبناءهم ممن هم أعمارهم بالثلاثين والذين أصبحوا آباء قد ولدوا وترعرعوا بعصر الآلة حيث تقتل اللغة بصمت ، ومن هنا أستذكر أبياتًا للشاعر عتيق الوابصي البلوي رحمه الله والتي يقول فيها ؛

حنيت حنّت مواليف البعاريني
على عيوفٍ تدب الشرب من ماها

حنّت خلوجٍ تصفقها الرعاويني
والذيب ولدها ولدها في معشاها

هذا الشاعر والذي توفي قبل قرابة العشرين عام ، قد يحتاج منها البعض للعودة للقاموس لفهم كلمات مثل ، عيوف ، تدب ، خلوج ، والرعاويني ، وقس ذلك على قصائد من سبقنا ، حيث تجد كلمات نعرفها لكننا لا نستخدمها وهنا تكمن الخطورة مثل الريع ، القفر ، العبرود ، النفاة ، العسام وغيرها . وعدم استخدامها في محادثاتنا يعني جيلا قادما أكثر فقرا بالمصطلحات العربية الفصيحة التي هي عماد الشعر وعصبه، فهي الرمال الصغيرة التي كونت ذلك الجبل وحدك الادبي العظيم .

عبدالكريم محمد الفاضلي البلوي

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

نحن نعتمد على إعلانات ادسنس كمصدر دخل رئيسي لنا ، الرجاء ايقاف مانع الاعلانات لكي تستفيد من موقعنا